دراسة تأملية تحليلية مختصرة لمختارات من نصوص الكاتب محمود بلكان .
إن منهجية التعبير عن الفكرة أو الشعور تتباين بتباين الكتّاب و على المستوى الفردي ، لذا فهذه السمة تضع في متناولنا ساحة فكرية متلونة و متنوعة كما لو أنها فسيفساء دقيقة القِطع صارخة الالوان متناسقة بالشكل الذي يعكس لوحة فنية فريدة تبهر المهتم و تحيّر المختص . و لأن نتاج الفكر و بكل صوره و مميزاته و خصائصه يمكن له أن يكون مادة للدراسة و التقصّي ، فإن من الهام ذكرهُ في هذا المستهل ، أن كاتبنا الموسوم أعلاه يتحرك على خط الارتجال الصرف في نتاجه الأدبي ، متخذاً من الخاطرة الشعرية القصيرة و قصيدة النثر قالبا لتقديم الفكرة و الهواجس الشخصية التي تلح على الكاتب في ضرورة الوصول الى القارئ . و أرى أن هذين الشكلين يحتمان على الكاتب استخلاص فكرة بليغة أو صورة جمالية محسوبة باحتراس كيما يحركان شيئا في ذات المتلقي ، و لن أبخس أحد حقهُ إن قلتُ أنهُ ليس بالضرورة أن تكون كل خاطرة مرتجلة نتاجاً مبهراً أو ذا منفعة ، و على وجه الخصوص تلك التي تنطوي على غموض شديد و افتقار الى الانسيابية اللغوية أو الموسيقى اللفظية ، فظروف كتابة النص الداخلية هي التي تحدد قيمتهُ الفعلية . لكن مع توطين أدوات التأمل ، يمكن للقارئ استشفاف الجمال و التلقائية في تقديم الحكمة التي تستدعي الوقفة و الإمعان . و من قولهِ :
[ ما بالُ زهرٍ ،
أضحَى أصفرا
بمنازلِ اللُطف ؟
عشقٌ بين أناملها ،
و نعومةٌ دنت
من قطف ] .
و يتطلع محمود في مواضع كثيرة الى سبر المستقبل و تحليل مجريات الواقع و التأسي الخفيّ على مآلات كثيرة تبرز من خلال النص ، كما في قولهِ : [ الحريّةُ أرضٌ إن سُقيت بمطر الثقافة ، و إلا فوضَى تنخرُ المبادئ ، و غزوُ الفاقَة ] . ثمّ يحلّق رويدا تلقاءَ دنيا العاطفة و يسرح في زرقة سماها ، مترنماً بـ :
[ أبحثُ عنكِ بمدنِ ضياعي ،
أرددُ اسمكِ و أكشفُ قناعي ..
كلُّ الأرصفةِ تعرفني ،
فقد كتبتُ على الأشجارِ
أوجاعي ..
أنا جُرحٌ بثوبِ الزمنِ ،
و نزفٌ أدمى عمرَ الشجنِ ..
أُساورُ من أجلكِ النوافذ ،
أتلصّصُ بكلِّ المنافذ ..
و أشِي بسرّي لكلّ الطيور ،
عشّ أنتِ ، و أنا ..
لستُ سوى ..
قشّةٌ تدور ].
و كما أشرتُ ، و محمود كأي شاعر لا تخلو نصوصهُ من سحنة الأسى ، لكنهُ يصوغ هذه الترنيمة بعفوية صرفة و عذوبة صافية ، فيتغنى بحزنهِ كما لو أنّهُ يعزفُ للقارئ لحنا ملؤهُ الذكرى : [ في جوفِ كل إنسان نهرٌ يتدفق ، و أرضُ أحلام . إن أتسعت أرضهُ ضاعَ حلمهُ ، و جفّ جوفهُ بالآلام ]. و هكذا نراهُ أبداً متقلباً بين مزاجيات الشعور ، و بين ما يُمليه عليه الحال من سعادة و مكابدة ، في قوله : [ أحملُ نفسي بعيداً ، كي أراك .. و أنا حمامةُ بوحٍ تصفقُ في فناك ].
______________
* عبدالله آل بصري