قصة قصيرة [ و من خَبِرَ الغواني فإن الغواني ، ضياءٌ في غياهبهِ الظلامُ – طائرُ الصدى ].
حينما غزا الصعلوك بمفردهِ تلك القبيلة الصغيرة كان يعرفُ أنها معدومة الرجال ، و أنها قبيلة النساء المعروفة . فشاء أنّ يذلّهن و يستفزّ القهر الذي ينخرُ قلوبهن المتعبة ، فحطّم ما حطّم و حرق ما حرق و سلب ما سلب ، ثم إقتحم الخيمة عليهن و عبث بنهودهن تاركاً خلفهُ ثلة من العرايا يلملمن ما سقط من سترهنّ . كان الحارث صبيّاً صغيراً لا قوة لهُ ، و هو الأملُ الوحيد لأمهِ و عماتهِ و كل الأرامل في القبيلة . أملهنَّ في الثأر من خالد ، الذي حصد رجالهنّ جميعاً ، في وقت كان الحارث فيه رضيعاً فلم يقطفه . تربّى الحارث بين الحناجر النائحة و كانت قصّة الثأر تقرأ على مسامعهِ كلّ يوم ، كان العويل هو الصوت الموسيقي الأقبح و الوحيد الذي يسمعهُ طوال عقدين ، حتّى شبّ و أخشوشنَ عودهُ ، و الفى نفسهُ وحيداً يهوى القفار و يلوذُ بالعزلة ، كانت أشكال الحجارة تتهيّأُ لهُ كما لو أنها خالد ، فينقضّ عليها بسيفِ أبيه جاعلاً إياها جذاذاً ، فيبردُ غيظهُ المغلي الآسن المسود قليلاً . كان الإنتقام ينضجُ بينَ أضلاعه و يكوي بنضوجهِ هذا حارثاً و يصليه . كان النعمان الأشقر الأصهب ، يطلبُ في محفلهِ أجاود الهدايا ، فجاد حارث بأخيرِ ما تملكهُ قبيلتهُ ، خيولاً عجفاء سلّم أعنتها الى النعمان مزجياً لهُ أسمى عبارات التوقير . لكنّ خالداً – الحاضر هناك – أهانَ أعطيته للملك مبخّساً إياها ، فغضب بدورهِ صارخاً به : يا حارث ، أرى خيلك أشباهاً هزالاً ، أين اللواتي كأنّ أذنابها شقاق أعلام ؟ و كأن مناخيرها وجار الضباع ؟ و كأنّ عيونها بغايا النساء ؟ فشفعُ لهُ الوزير و أنقذهُ من براثن الغضب . تلقى حارث إهانتهُ الأولى بمرار و إبتلعها كما لو أنهُ يبتلعُ مكعباتٍ من الجمر . ثم في سمرِ القوم ، أوعز خالد هامساً الى بنتُ عفزر المغنية شبه العارية التي لم يكن يغطي جسدها الفارع إلا مزقٍ من دمقسٍ شفاف فغنّت على دقِّ الدفوف و الصاجات : ” دارٌ لهندٍ و الرَّبابِ و فَرتَني *** و لَمِيس قبل حوادثِ الأيامِ ” ، كانت هذه أسماء أمهُ و خالاتهُ تعرض بهن و تكشف عن مفاتن أجسادهن ( في باقي القصيدة ) . هالَ بنتُ عفزر غضبهُ الصامت تلك اللحظة على خالد فتدلّهت سرّاً إعجاباً به ، و إبتلع حارثاً الإهانة الثانية . و على مائدة الملك تقابلاً بتقصدٍ من خالد ، فكان النوى المقذوف عليه يلوحُ أمامهُ كجبلٍ مصغّر ، و خالداً يضحكُ منهُ بسخرية مخاطباً الملك : أبيتُ اللعن ، أنظر إلى ما بين يدي الحارث من النوى ، ما ترك لنا تمراً إلا و أكلهُ ! لم يبتلع الحارث الإهانة الثالثة فردّ عليه : أمّا أنا فأكلتُ التمرَ و ألقيتُ النوى ، و أمّا أنت فأكلتهُ بنواه ! فوجمَ القومُ و إضطرم شيخُ القبائل غضباً و حنقاً على ربيب النساء . خرجَ الحارث إلى حانة بنتُ عفزر ، فغنّت لهُ ما أراد بل و توددت لهُ تسترضيهِ . ثمّ إنطلقت بهِ تقطعُ الأزقة و الأسواق في دجى الليل إلى طرفِ الحيرة حتّى أدخلتهُ بيتها ثمّ حجرتها . إنزلقت تحتهُ و إحترقا حتّى إنبلاج النور و حينَ كافئتهُ إنما كانت تكافئُ نفسها . عند الصباح لبّت مشيئتهُ حينما قال لها بصوتٍ بارد : أريدُ سيفاً . سارا إلى الحداد في إستخفاء ، فأغرت الحداد المتردد بأن تمكنهُ من نفسها ، فباعهُ مقابل ما كان معهُ من القطع الذهبيّة و على خوفٍ شديد السيف ( ذي الحيات ) ، و كانت هذه الفعلة خرقاً لا يغتفر لقانون الحيرة . في الليلة التالية كان خالد يسلّم الروح متحشرجاً يصوصي و هو يستقيظِ فزِعاً منتفخ الأوداج من نومته في خيمتهِ الفاخرة ، فأيقظ الحارث بلكزةٍ من سيفهِ حارسهُ النائم قائلاً : إهرع إلى قومك و أخبرهم أني أخذتُ بثأري .
________
#عبدالله_آل_بصري
#شتاء_الخامس