في رثاء والدتي الغالية | عادل الغامدي

اللهم اجعل هذا القبر روضة من رياض الجنة، واجعل صاحبته من نساء الفردوس الاعلى، وارزقها نعيما سرمدياً أبدياً

(صورة)

أكتب هذه السطور من على متن طائرة خطوط الـ BMI رحلة رقم774 من مقعدي رقم 21Aالملاصق لنافذة الطائرة والمتجهة من جدة الى لندن ثم الى كندا بمشيئة الله، عائدا من رحلة العزاء في أمي الغالية وموارة جثمانها الطاهر الثرى _أسبغ الله عليها شآبيب الرحمة وانزلها منازل الصديقين والصالحين وحسن اؤلئك رفيقاً_..

فاللهم ياسميع الدعوات، يامقيل العثرات، ياقاضي الحاجات، ياكاشف الكربات، يارفيع الدرجات، يابارئ البريات، وغافر الخطيات، وعالم الخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، يامن أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة، وقهر كل مخلوق عزة وحكما، اغفرلها ذنوبها، واستر عيوبها، وتجاوز عن سيئاتها، وثبتها عند السؤال إنك أنت الغفور الرحيم

لا أدري ماذا اكتب وكيف أكتب ومن أين أبدأ.. فبالله عليكم كيف تكون هي المشاعر والخواطر عندما يكتب احدنا شيئاً عن والدته وهي حية ترزق..فكيف يكون ذلك بعد الموت والبلى اذاً ؟؟!! ..

لقد كانت صدمة صاعقة وفاجعة مؤلمة بأن أتلقى خبر وفاة أمي وأنا بعيدٌ عنها .. وددت لو كنت واقفا بجانبها طيلة فترة مرضها الاخير الذي لم يستمر طويلا.. وددت لو كنت تحت قدميها المخضبة بالحناء.. قريبا من موضع مرضها الاخير الذي اصابها في اسفل قدمها.. كانت تتوجع .. وكأن قدميها تنادي وتصرخ.. الجنة هاهنا.. الجنة هاهنا..

ومازاد الصدمة انني لم اتمكن من تقبيل جبينها وحضور الصلاة عليها ودفنها..فقد وصلت الى ارض الوطن بعد الصلاة عليها بست ساعات.. وهذا مايرهقني كثيرا والله..تمنيت ان احقق دعواتها التي ارتضتها لنفسها.. فكانت تقول”اللهم اجعل ابنائي من يتجمل فيني عند الموت.. اللهم لاتفجعني بمكروه يصيب أحداً منهم.. وأجعل يومي قبل يومهم “.. فقط تمنيت ان أحظى برؤيتها وإكرامها بعد موتها.. فحتى هذه اللحظة لا اصدق بأن امي ماتت.. كلما سمعت صوت خطوات قادمة من بعيد او ظل انسان قريب اظن بان امي ستطل علي من هنا أو هناك واسترعي اذني انتباها لسماع صوتها..

لم اتعود ذلك المنظر ابدا.. كنت اشعر فيما مضى عندما اذهب للعزاء بان من اراهم اناس من كوكب اخر .. يحملون مشاعرا غريبة غير التي احمل .. ولهم قلوبا غير الذي أملك.. واليوم ارى والدي الذي ضرب كبد السبعين في أوائل صفوف العزاء واقفاً على عصاه.. يبكي كبكاء الطفل الصغير.. يتلقى التعازي في شريكة عمره ورفيقة حياته التى رافقته لأكثر من خمسة وأربعين عاماً مضت.. بين فقر وغنى.. صحة ومرض.. سفر وحضر.. حزن وفرح.. فيارب كما جمعت بينهما في هذه الدنيا فاجمع بينهما في مستقر رحمتك واجعلهم على سرر متقابلين في جنات النعيم..

رحمك الله يا أمي.. فقد شهد بطيبك وحسن سيرتك ونقاء سريرتك القاصي قبل الداني.. فوالله ماذكرك ذاكر إلا بحسن اعمالك وطيب افعالك ورقة قلبك وعاطفتك الجياشة وحبك للانفاق والصدقة والعطاء وحب المساكين ..

رحمك الله يا امي.. وهنيئا لك بقلبك الذي حملت بين جنبيك .. والله مارأيت مثلك استعداداً للموت وحبا له وشوقا للقاء ربك.. فلا زلت اذكر جيداً عندما كنت ترينا ثوب زواجك.. وتخرجين معه جهاز الميت .. وكفنه .. وسدره وحنوطه.. وتوصين باستخدامه .. فأي شوق هذا الذي صبرت عليه ؟؟

رحمك الله يا أمي .. فوالله ماشقيتي على أحد منا ولا أتعبتيه.. وكم كان احساسك رهيفاً .. وقلبك ليناً .. اتذكر عندما كنت أدفع بكرسيك المتحرك كلماتك الرقيقة “سامحني ياحبيبي تعبتك.. وثقلت عليك” .. لا والله .. بل كانت قمة سعادتي عندما امشي خلفك أو بجوارك بين الناس..في الممرات والطرقات .. وافتخر بأن لي أم طيبة مثلك .. اتشرف بخدمتها وكسب رضاها.. ونيل صادق دعاءها..

رحمك الله يا أمي.. فقد كنتي مدرسة عظيمة لابناءك وبناتك ومن كانوا حولك .. وضربتي اروع الامثلة في التربية والتنشئة والحرص.. فوالله ماعهدنا عليك افراطا ولا تفريطاً .. فكنت لنا الارض التي نمشي عليها والسماء التي نسير من تحتها.. وكنا نخرج ببركة دعائك .. ونعود بإستجابة رجاءك .. فيارب لاتخيب لها رجاء بعد موتها .. ولاتخذلنا من غير دعواتها.. يارب كن معنا ولاتكن علينا.. يارب ارحم ضعفنا وامنن علينا..

تعودت ان يكون في استقبالي عند العودة من السفر ذلك الوجه الطيب الطاهر وتلك الابتسامة العريضة التي لاتفارق محياها وبأحضان دافئة تشعرني بذوبان التعب والغربة وانفراج الهموم وتبعث لي بمفاتيح الرزق والسعادة والنجاح.. تعودت على ان أقبل جبينها وكفيها وقدميها.. وأن ألتمس خالص الدعوات وأصدقها مع كل خفقة قلب.. وكل غمضة عين.. لكن كانت هذه المرة تختلف تماما عن كل المرات.. يالله .. ماذا حدث..

لماذا اختفى ذلك الصوت.. واين هي تلك الكلمات والعبارات الترحيبية.. ألست في بيتنا؟! أليسوا أهلي؟! .. ولماذا يبدو البيت هكذا خاويا صامتا الا من نحيب أهله؟.. أسئلة كثيرة رددتها وسمعت صداها.. لكن لامجيب.. سوى السواد الذي تحجبن به شقيقاتي.. فقد كان منظرا حزيناً يبكي القلب قبل العين.. وجوه يعلوها الحزن.. وعيون تملؤها الدموع .. وشفاه تتمتم بكلمات لتعبرعن آلاماً بين الضلوع..

وكان لي موعد مع غرفتها

على استحياء.. وبخطوات وجلة..توجهت لغرفة امي.. طرقت باب الغرفة كالعادة.. لعله أحد ان يجيبني.. انتظرت قليلاً.. ثم طرقت الباب ثانية.. وثالثة.. ولامجيب.. تمالكت نفسي ودفعت بالباب.. فإذا بالغرفة مظلمة لانور فيها .. ولازالت هناك رائحة مميزة تعبق شذا في غرفة امي..رائحة عطرها.. ورائحة الريحان الذي كانت تتزين به تحت طرحتها.. جمعت كامل قواي وفتحت باب دولابها.. لتسقط عيني على آخر هدية اشتريتها لها.. لازالت في علبتها.. وبجانبها عدد من قوارير العطور.. والهدايا.. وعلب الحلوى.. التي كانت تطعمها لأحفادها عند زيارتهم لها .. وايضا علبة بخور.. وشيئا من ملابسها.. وبعض من حاجياتها وممتلكاتها.. قلبت بصري في انحاء متفرقة من الغرفة.. هنا سجادة صلاتها.. وعلى الكومدينة بعض أدويتها.. وعلى التسريحة شيئاً من الاثمد الذي كانت تكتحل به وبعض العطور التي كانت تحبها.. وفي الدرج الآخر كيساً من خضابها.. وشيئا من زينتها.. كل هذه الاشياء كانت تبكي وتأن مثلي..

رباه أشيائها الصغرى تعذبني

فكيف أنجو من الأشياء رباه

هنا هديتها في الدولاب مهملة

هنا عطورها تبكي في اوانيها

وفي الخزانة بعض من جواهرها

وفي الزوايا بقايا من بقاياها

مالي أحدق في المرآة أسألها

بأي ثوب من الأثواب ألقاها

أواااه .. ما اصعب السفر بدون صلواتك ودعواتك يا أمي.. فقد كانت تفتح لي أبواباً مغلقة من التوفيق والنجاح والحفظ والتيسير.. وماأصعب السفر بدون قلباً يحمل هم المسافر حتى يصل.. ويملأ ذلك الوقت باللجوء والابتهال الى المولى القدير.. لقد كنت فيما مضى أتباهى بجواز سفري أمام أقراني لما يحمله من تاشيرات سفر لمختلف البلدان وأختام الدخول والخروج من كبرى مطارات العالم.. واليوم اصبحت أحمل إلى جواز سفري وثيقة اخرى ثقيلة.. اصبحت احمل شهادة وفاتك يا امي.. لعلها تصادف قلباً عطوفا رحيما فينهي اجراءات سفري بلا تعقيد ولا تأخير لأنه يعلم انه انقطع الدعاء وغاب الرجاء

كنت قد نويت في اجازتي القادمة ان تكون عبر مدينة باريس.. لاختار لك من العطور اثمنها وأزكاها.. ومن الهدايا اغلاها واجملها.. لكن القدر سبق امنيتي.. فلم اكن اعلم انه كان يخبيء لنا مفاجأة عصيبة.. فقد اختار القدر ان أعبر تلك المدينة باكياً منكسراً ومسرعاً للحاق بموارة جثمانك الطاهر الثرى وتقبل العزاء في عظيم فقدانك.. فلتبقى تلك العطور كاسدة في اوانيها.. ولتبور تلك السلع مهما غلت اثمانها .. وليشوبها الفساد على رفوفها.. فقد غابت من كانت تستحقها.. وليعوضك الله بنعيم الفردوس وطيبها وشرابها .. فماعند الله خير وابقى.. وماعند الله خير للابرار..

ارجوكم لاتنسوها من الدعاء..

ولاتنسوني انا ايضا من صالح دعائكم.. فقد ماتت التي كانت تدعوا لنا،

رزقكم الله بر والديكم .. ومتعكم بصحتهم

وغفر الله لمن وارى الثرى اجسادهم.. وجمعكم بهم في عليين،،

عادل الغامدي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s